البُحْتُريّ (204 - 284هـ، 819-897م). أبو عبادة الوليد بن عُبَيْدالله، من أعلام الشعراء العرب في القرن الثالث الهجري. ينتهي نسبه إلى بُحْتُر أحد أجداده من قبيلة طيء وإليه نُسب. وُلِد بمَنْبِج بالقرب من حلب في شمالي سوريا، وفيها نشأ نشأة عربية خالصة، نظم الشعر في فترة مبكِّرة من حياته، وأحب فتاة اسمها علوة الحلبية فشبَّب بها. اتصل بأبي تمام في حمص فأثنى أبو تمّام على شاعريته ونفحه وصيته في صناعة الشعر، فلما استوثق البحتري من شاعريته قصد بغداد ومدح بعض الوزراء والقادة والأمراء، ثم اتصل بالخليفة المتوكّل وبوزيره الفتح ابن خاقان، ثم شهد مقتلهما بعد فترة، فحزن وعاد إلى مَنْبِج. ولمَّا ضاق صدره فيها اتجه إلى المدائن. وصف إيوان كسرى بقصيدة سينية رائعة تُعدُّ من عيون الوصف في الشعر العربي ومطلعها:
صنْتُ نفسي عما يُدنِّس نَفْسي وترفَّعْتُ عن جَدَا كل جِبْسِ
وتُنسَب إلى ابن المعتز كلمة يقول فيها: ¸لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته في إيوان كسرى وقصيدته في بِرْكة المتوكل لكان أشعر الناس·.
جمع من شعره ثروة طائلة، أنفق جزءًا منها على لذائذه، وكان شديد الغرور بنفسه وبشعره على الرغم من سماحة خُلُقه. تظهر في شعره عاطفة حب الوطن والتعصّب لطيِّئ، وتمجيد حضارة الفرس. كما يحمل شعره عاطفة دينية لاتخفى. ترك ديوان شعر كبيرًا يشغل المدح أكثره، وفيه رثاء وهجاء قليلان. ويكثر الغزل في مطالع قصائده على حين يتخلل الوصف شتى الموضوعات. رُتِب الديوان حسب الحروف ثم حسب الأغراض الشعرية، شرح بعض رواياته أبو العلاء المعري بكتاب سماه عبث الوليد.
ألَّف البحتري كتاب الحماسة اقتداءً بأستاذه أبي تمام، وقد جمع فيه مختارات من شعر الأوائل لحوالي ستمائة شاعر مابين جاهلي وإسلامي وعباسي في مائة وأربعة وسبعــين بابًا ضمّنها أكـثر المعـاني الشعـرية القـديمة، ولكن حماسـته لا تضارع حماسة أبي تمـام في الاخـتيار. انظر: الشعر. يُنسَب للبحتري كتاب آخر اسمه معـاني الشعر ولكنه لم يصل إلينا. وبراعة البحتري في الوصف هي التي دفعته إلى وصف إيوان كسرى، ووصف الربيع، ووصف الذئب، ووصف بِرْكَة المتوكِّل، وغيرها من موصوفات عصره، وكان يساعده على ذلك صدق تجربته النفسية لشدة تأثره بالجمال ورهافة إحساسه، وتدفق عاطفته، وسعة خيالة، وروعة تصويره، وقدرة ذاكرته على اختزان المرئيات والمشاهد التي تتداعى في ذهنه، وهذا يفسِّر معنى المقولة: المتنبي وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري، التي تنسب إلى أبي العلاء المعري. ويظل البحتري أشعر من المتنبي وأبي تمام عند من يفضلون رونق الديباجة، وسهولة المعاني ووضوح التراكيب، وقرب الخيال، وتآلف الألفاظ، لأن البحتري ـ كما يُجمع النقاد ـ مطبوع على الشعر مولع بالجمال واسع الخيال، تقرأ شعره فتشعر كأنه ينساب من ينبوع قلبه وأنه لا يتكلَّف أي عنصر من عناصره. كما امتاز شعره بحلاوة الموسيقى وانسجامها مع العواطف والمعاني، وأبدع في تصوير الألوان، والأصوات، والمشمومات، والملموسات. وقد يطلب البحتري المجاز والبديع، ولكنه لا يسرف فيه إسراف أبي تمام، ويجعلهما خادمين للمعنى يزيدانه رونقًا، ثم هو لا يأتي بما غمض، بل يصطفي ماقرب مأخذه. وقد ساعده طبعه على حسن الاختيار حتى قيل عن شعره إنه سلاسل الذهب وخاصة مافي حديثه من المعاني الغزلية ولا سيَّما طـيـف الخيال الذي اشتُهر به البحتري، فكان بحق زعيم المدرسة الشامية. ومن أبياته السيارة قوله:
دنوت تواضعًا وعلوت مجدًا فشأناك انخفاض وارتفاعُ
كذاك الشمس تبعدُ أن تُسامى ويدنو الضوء منها والشعاعُ
ومن رقيق غزله قوله: :
مِني وصلٌ ومنك هجرُ وفيَّ ذلٌ وفيك كِبْرُ
وماسواء إذا التقينا سهل على خلّةٍ وَوَعْرُ
قد كنت حُرًا وأنت عبدٌ فصرتُ عبدًا وأنت حُرُّ
بَرَّح بي حبك المُعَنِّي وغرني منك مايَغُرُّ
أنت نعيمي وأنت بؤسي وقد يسوء الذي يَسُرُّ
وكذلك وصفه لفصل الربيع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا من الحسنِ حتى كاد أنْ يتكلما
وقد نبه النيروز في غَلَس الدُّجى أوائل وردٍ كُنَّ بالأمسِ نُوَّما
يفتِّقها برد الندى فكاَّنه يبث حديثًا كان أمس مُكتّما